فصل: الفصل الْأَوَّلُ: فِي اقْتِرَانِ اسْمِهِ بَاسِمِ رَبِّهِ وَحَقِّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَقِّهِ عَزَّ وَجَلَّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفصل الثَّانِي: أَفْعَالُ اللهِ فِي تَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ خَلْقِهِ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ، لَا يَجْعَلُهُمْ مُجْبَرِينَ بِقُدْرَتِهِ:

قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} (9: 14) الْآيَةَ.
يَتَوَهَّمُ أَهْلُ الْجَبْرِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى نِحْلَتِهِمْ، وَيَرُدُّهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كَانُوا مُجْبَرِينَ لَكَانَ أَمْرُهُمْ لَغْوًا وَعَبَثًا. وَقَوْلُهُ: {يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ} مَعْنَاهُ يُعَذِّبُهُمْ بِتَمْكِينِ أَيْدِيكُمْ مِنْ رِقَابِهِمْ قَتْلًا، وَمِنْ صُدُورِهِمْ وَنُحُورِهِمْ طَعْنًا، وَيُؤَكِّدُهُ الْوَعْدُ بَعْدَهُ بِنَصْرِهِمْ وَفِي مَعْنَاهُ.
قَوْلُهُ: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} (9: 52).
وَقَالَ تَعَالَى فِي آية: {وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (9: 19) وَقَالَ فِي آيَتَيْ 24 و80: {وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. وَقَالَ: {وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (9: 37) وَلَيْسَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَنَعَهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ بِقُدْرَتِهِ فَصَارُوا عَاجِزِينَ عَنْهَا وَمُجْبَرِينَ عَلَى الْفِسْقِ وَالظُّلْمِ وَالْكُفْرِ إِجْبَارًا، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا مَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا وَهُوَ: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي رَسَخَتْ فِي أَنْفُسِهِمْ بِكَسْبِهِمْ مُنَافِيَةٌ لِهُدَى اللهِ تَعَالَى الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ رَاجِعْ (ص197 و211 و363 و489 فِي ج10 ط الْهَيْئَةِ) وَيُقَابِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ الْآيَةِ الْأَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيمَنْ تُرْجَى لَهُمُ الْهِدَايَةُ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (9: 18).
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ بَيَانِ السُّنَنِ وَطَبَائِعِ الْبَشَرِ قَوْلُهُ فِي خَوَالِفِ الْمُنَافِقِينَ: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} (9: 87) ثُمَّ قَوْلُهُ فِيهِمْ: {وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (9: 93) فَهُوَ بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللهِ فِي تَأْثِيرِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي مِنْهَا رِضَاهُمْ بِخُطَّةِ الْخَسْفِ وَالذُّلِّ. وَهُوَ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجِهَادِ- أَنَّ قُلُوبَهُمْ كَالْمَطْبُوعِ عَلَيْهَا الَّتِي لَا تُفْقَهُ كُنْهُ حَالِهَا وَلَا تُعْلَمُ سُوءُ مَآلِهَا (ص509 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ فِي الَّذِينَ يَنْصَرِفُونَ مِنْهُمْ مُتَسَلِّلِينَ مِنْ مَجْلِسِ الْقُرْآنِ: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (9: 127) أَيْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ فَقَدُوا صِفَةَ الْفَقَاهَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَفَهْمِ الْحَقَائِقِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ؛ لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ فِيهَا إِلَى آخِرِ مَا فَصَلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا (فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ).
وَبِهَذِهِ الْمِرْآةِ تَرَى حَقِيقَةَ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} (9: 46) وَرَاجِعْهُ (فِي ص407 ج10 ط الْهَيْئَةِ) وَقوله: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} (9: 67) وَرَاجِعْهُ فِي (ص460 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ).

.الفصل الثَّالِثُ: فِي تَعْلِيلِ أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ وَسُنَنِهِ فِيهِمَا:

1- تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِإِتْمَامِ الْعُهُودِ الْمُؤَقَّتَةِ بِقَوْلِهِ تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (9: 4 و7).
2- تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِ التَّائِبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (9: 5).
3- تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِإِجَارَةِ الْمُشْرِكِ الْمُسْتَجِيرِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللهِ بِقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} [9: 6].
4- تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ النَّاكِثِينَ لِلْعَهْدِ بِقوله: {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} (9: 12).
5- تَرَى تَعْلِيلَ عَدَمِ قَبُولِ صَدَقَاتِ الْمُنَافِقِينَ بِفِسْقِهِمْ ثُمَّ بِكُفْرِهِمْ فِي آيَتَيْ 53 و54.
6- تَرَى تَعْلِيلَ عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَفِسْقِهِمْ فِي الْآيَةِ 9: 80.
7- تَرَى تَعْلِيلَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فِي الْآيَةِ 9: 84.
8- تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَطْهِيرِهِمْ وَتَزْكِيَتِهِمْ بِهَا 9: 103.
9- تَرَى تَعْلِيلَ الْأَمْرِ فِتْنَةَ الْمُنَافِقِينَ فِي كُلِّ عَامٍ بِأَمَلِ التَّوْبَةِ وَالتَّذَكُّرِ 9: 126.
فَيُعْلَمُ مِنْ كُلِّ تَعْلِيلٍ أَنَّ حِكْمَتَهُ تَعَالَى فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ مَنْفَعَةُ عِبَادِهِ وَمَصْلَحَتِهِمْ وَخَيْرِهِمْ.
سُنَنُهُ تَعَالَى فِي أَفْرَادِ الْبَشَرِ وَأَقْوَامِهِمْ وَأُمَمِهِمْ:
بَيَّنَّا سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْعَقَائِدِ وَالصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ فِي الْأَعْمَالِ، وَتَرَتُّبِ الْأَعْمَالِ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ (مِنْهَا) إِخْزَاءُ الْكَافِرِينَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى (وَمِنْهَا) نَفْيُ هِدَايَةِ اللهِ تَعَالَى لِلظَّالِمِينَ وَالْفَاسِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي الْآيَاتِ 19 و24 و27 و80 (وَمِنْهَا) كَرَاهَتُهُ تَعَالَى انْبِعَاثَ الْمُنَافِقِينَ لِلْقِتَالِ وَتَثْبِيطَهُ لَهُمْ، وَقَوْلُهُ: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} فِي الْآيَةِ 46 (وَمِنْهَا) طَبْعُهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فِي الْآيَتَيْنِ 87 و93 وَفِي مَعْنَاهُ صَرَفَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ فِي الْآيَةِ 127 وَتَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا.
وَمِنْ بَيَانِ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ قوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (9: 39) فَبَقَاءُ الْأُمَمِ وَعِزَّتِهَا يَتَوَقَّفَانِ عَلَى قُوَّةِ الدِّفَاعِ الْحَرْبِيَّةِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص368 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} (9: 47) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي (ص408 ج10 ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (9: 115).

.الفصل الرَّابِعُ: قضاء الله وقدره وولايته للمؤمنين:

فِي قَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَوِلَايَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ هَذِهِ عِدَّةُ عَقَائِدَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَكَمَالِ التَّوْحِيدِ وَالْإِيقَانِ، جُمِعَتْ كُلُّهَا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، أَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرُدَّ بِهَا عَلَى الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَهُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ تَسُوءُهُمْ كُلُّ حَسَنَةٍ تُصِيبُهُ كَالنَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَتُفْرِحُهُمْ كُلُّ مُصِيبَةٍ تُصِيبُهُ كَالنَّكْبَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ وَهِيَ {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (9: 51) فَتَصَوَّرْ حَالَ مُؤْمِنٍ يُوقِنُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَهُ اللهُ لَهُ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ هَذَا الْمَكْتُوبَ لَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَعْدُو فِي جُمْلَتِهِ وَعْدَهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُؤْمِنٌ مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّصْرِ وَالشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ الْمُعَبِّرِ عَنْهُمَا بِالْحُسْنَيَيْنِ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ (أَيْ آيَةِ 52) وَيَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ مَوْلَاهُ الَّذِي يَتَوَلَّى نَصْرَهُ وَتَوْفِيقَهُ؛ فَهُوَ بِمُقْتَضَى إِيمَانِهِ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَيُفَوِّضُ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، تَصَوَّرْ حَالَ مُؤْمِنٍ تَمَكَّنَتْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَلَكَتْ عَلَيْهِ وِجْدَانَهُ، هَلْ يَخَافُ مِنْ غَيْرِ اللهِ؟ هَلْ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ؟
هَلْ يَمْنَعُهُ أَيُّ خَطْبٍ مِنَ الْخُطُوبِ عَنِ الْجِهَادِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَإِقَامَةِ دِينِ اللهِ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَدِّ بِسَاطِ الْبِرِّ وَالْفَضْلِ؟ وَتَصَوُّرْ حَالَ أُمَّةٍ يَغْلِبُ عَلَى أَفْرَادِهَا مَا ذُكِرَ، أَلَا تَكُونُ أَعَزَّ الْأُمَمِ نَفْسًا، وَأَشَدَّهَا بَأْسًا؟
وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْعَقَائِدَ وَيَزِيدُهَا رُسُوخًا فِي قَلْبِ تَالِي هَذِهِ السُّورَةِ خَتْمُهَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (9: 129) فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَأَمَّلَ مَعْنَاهَا وَيُطَالِبَ نَفْسَهُ بِالتَّحَقُّقِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ بِهِ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَعِزَّةِ النَّفْسِ مَا يَحْتَقِرُ بِهِ خَسَائِسَ الْمَادَّةِ الَّتِي يَتَكَالَبُ الْمَادِّيُّونَ عَلَيْهَا، وَيَبْخَعُونَ أَنْفُسَهُمُ انْتِحَارًا إِذَا فَاتَهُمْ أَوْ أَعْيَاهُمْ شَيْءٌ مِنْهَا، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى {حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} سَبْعَ مَرَّاتٍ كَفَاهُ اللهُ مَا أَهَمَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 129.

.الباب الثَّانِي: فِي مَكَانَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ عِنْدَ رَبِّهِ وَفِي هِدَايَةِ دِينِهِ وَحُقُوقِهِ عَلَى أُمَّتِهِ:

وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ:

.الفصل الْأَوَّلُ: فِي اقْتِرَانِ اسْمِهِ بَاسِمِ رَبِّهِ وَحَقِّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَقِّهِ عَزَّ وَجَلَّ:

وَفِيهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَاهِدًا:
(1 و2) افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وَعَطَفَ عَلَيْهَا قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} (9: 3) إِلَخْ فَقَرَنَ تَعَالَى اسْمَ نَبِيِّهِ بِاسْمِهِ فِي تَبْلِيغِ أَحْكَامِهِ وَتَنْفِيذِهَا.
(3) قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ كَمَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْآية: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} (9: 16) أَيْ دَخِيلَةً وَبِطَانَةً مِنْ غَيْرِهِمْ يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى الْأَسْرَارِ، وَلِهَذَا أَشْرَكَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِهِمْ فِي وِلَايَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ دُونِ أَعْدَائِهِمْ، وَيَضُرُّهُمْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَلَائِجُ وَدَخَائِلُ مِنْ غَيْرِهِمْ. دُونَ مَا قَبْلَهُ الَّذِي هُوَ تَشْرِيعٌ، هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى، وَتَبْلِيغٌ وَتَنْفِيذٌ: هَمَّا حَقُّ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَهْدِهِ، وَوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
(4) قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} (9: 24) فَجَعَلَ كَمَالَ الْإِيمَانِ مَشْرُوطًا بِتَفْضِيلِ حُبِّ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ عَلَى كُلِّ مَا يُحَبُّ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ النَّاسِ وَالْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ وَحْدَهُ وَلَيْسَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَدْنَى حَقٍّ وَلَا شَرِكَةَ مَعَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي عِبَادَتِهِ.
(5) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ شَرَعَ قِتَالَهُمْ مِنَ الْآية: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ} (9: 29) عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ {رَسُولُهُ} فِي الْآيَةِ هُوَ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمُفَسِّرِينَ يُقَابِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ رَسُولُهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْيَهُودِ وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّصَارَى.
وَهَلِ الْعَطْفُ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ أَعْطَاهُ اللهُ حَقَّ التَّحْرِيمِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَمْ حَظُّهُ مِنْهُ التَّبْلِيغُ عَنِ اللهِ تَعَالَى نَصًّا وَلَوْ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ أَوِ اسْتِنْبَاطًا؟ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي التَّشْرِيعِ الدُّنْيَوِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دُونَ الدِّينِيِّ الْمَحْضِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْأَوَّلِ وَجَعَلُوا مِنْهُ تَحْرِيمَهُ صلى الله عليه وسلم لِلْمَدِينَةِ كَمَكَّةَ أَنْ يُصَادَ صَيْدُهَا أَوْ يُخْتَلَى خَلَاهَا إِلَخْ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الثَّانِي وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالتَّفْصِيلِ.
(6) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سَبَبِ مَنْعِ الْمُنَافِقِينَ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ مِنَ الْآية: {أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ} (9: 54) وَمِثْلُهُ فِي سَبَبِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِاسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْآية: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ} (9: 80) وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنَّ الدِّينَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْإِيمَانِ بِرَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَأَنَّى يُعْرَفُ اللهُ وَمَا يُرْضِيهِ مِنْ عِبَادَتِهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ رُسُلِهِ وَمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِمْ؟
(7) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الَّذِينَ لَمَزُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيْ عَابُوهُ فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ وَكَانُوا يَرْضَوْنَ إِذَا أُعْطَوْا وَيَسْخَطُونَ إِذَا مُنِعُوا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولِهِ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} (9: 59) وَالْجَمْعُ فِيهَا بَيْنَ اسْمِ اللهِ وَاسْمِ رَسُولِهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الرِّضَاءُ بِمَا آتَيَا وَأَعْطَيَا بِالْفِعْلِ وَالثَّانِي الرَّجَاءُ فِيمَا يُؤْتِيَانِ مِنْ بَعْدُ، فَأَمَّا الْعَطَاءُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فَهُوَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ وَيُنْعِمُ بِالْغَنَائِمِ فِي الْحَرْبِ وَهُوَ الَّذِي شَرَعَ قِسْمَتَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَجَعَلَ خُمْسَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهَا مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَهُوَ الْمُنْعِمُ بِسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَالَّذِي فَرَضَ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَأَمَّا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الْقَاسِمُ لِلْغَنَائِمِ وَالصَّدَقَاتِ بِإِعْطَائِهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَلِذَلِكَ خُصَّ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ بِالْفَضْلِ. وَفِيهَا مِنْ أُصُولِ التَّوْحِيدِ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا لِلَّهِ وَحْدَهُ وَمَا لَهُ وَلِلرَّسُولِ أَمْرَانِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْمُحْسِبَ الْكَافِيَ لِلْعِبَادِ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، وَلِهَذَا أَرْشَدَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: {حَسْبُنَا اللهُ} وَلَمْ يَقُلْ وَرَسُولُهُ كَمَا قَالَ فِي الْإِيتَاءِ، و(ثَانِيهِمَا) أَنَّ تَوَجُّهَ الْمُؤْمِنِ فِيمَا يَرْغَبُهُ وَيَرْجُوهُ مِنَ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ: {إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} (9: 59) وَمِنْهُ {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (94: 8) أَيْ دُونَ غَيْرِهِ (رَاجِعْ ص241 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ).
(8) قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} (9: 62) فَمُقْتَضَى الْإِيمَانِ الَّذِي لَا يَصِحُّ بِدُونِهِ- تَحَرِّي الْمُؤْمِنِ إِرْضَاءَ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأَوْلَى وَإِرْضَاءَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَامَلَاتِهِمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ التَّابِعَةِ الْأُولَى؛ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ مَا يُرْضِي رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم يُرْضِيهِ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَقَدْ يُرْضِي بَعْضُهُمْ مَا لَا يُرْضِي اللهَ وَرَسُولَهُ لِجَهْلِهِ بِمَا يُرْضِيهِمَا أَوْ غَفْلَتِهِ عَنْهُ أَوِ اتِّبَاعِهِ لِهَوَاهُ فِيهِ. وَمِنْهُ فِي مَوْضُوعِ الْآيَةِ فِي أَنَّ بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رُبَّمَا كَانُوا يُصَدِّقُونَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي اعْتِذَارِهِمْ عَمَّا اتُّهِمُوا بِهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا يَعْلَمُهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ بَاطِنِ أَمْرِهِمْ وَمَا أَعْلَمَ بِهِ رَسُولَهُ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (9: 96).
(9) قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} (9: 63) الْآيَةَ هَذِهِ مُقَابِلَةٌ لِمَا قَبْلَهَا فَإِنَّ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ أَيْ يُعَادِيهِ يُعَادِي رَسُولَهُ كَمَا أَنَّ مَنْ يُرْضِي أَحَدَهُمَا يُرْضِي الْآخَرَ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْجَزَاءُ وَاحِدًا.
(10) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَخُوضُونَ فِي مَسْأَلَةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَيَهْزَءُونَ بِمُحَاوَلَةِ غَزْوِ الرُّومِ وَرَجَاءِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم النَّصْرَ عَلَيْهِمْ وَبِمَا كَانَ وَعَدَ بِهِ أَصْحَابَهُ مِنَ الظَّفَرِ بِمُلْكِهِمْ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (9: 65) فَحُكْمُ الِاسْتِهْزَاءِ بِاللهِ وَآيَاتِهِ الْكُفْرُ، وَهُوَ حُكْمُ الِاسْتِهْزَاءِ بِرَسُولِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي وَعَدَ رَسُولَهُ بِالنَّصْرِ وَأَمَرَهُ بِالْغَزْوِ، وَرَسُولُهُ إِنَّمَا بَلَّغَ عَنْهُ آيَاتِهِ وَوَعْدَهُ فِي ذَلِكَ.
(11) قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} (9: 90) الْآيَةَ. مَعْنَى كَذِبِهِمْ إِيَّاهُمَا إِظْهَارُ الْإِيمَانِ بِهِمَا كَذِبًا وَخِدَاعًا وَمَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ فِي دَعْوَى الْإِيمَانِ فَقَدْ كَذَّبَ اللهَ- وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ- وَاسْتَحَقَّ الْجَزَاءَ الَّذِي فِي الْآيَةِ.
(12) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ الصَّادِقَةِ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (9: 19) فَاشْتَرَطَ لِقَبُولِ عُذْرِهِمْ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْقِتَالِ النُّصْحَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي كُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِمَا فِي مُقَاوَمَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُسَاعَدَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَالنُّصْحُ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ.
(13) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُعْتَذِرِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى تَبُوكَ: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (9: 94) الْآيَةَ. وَالْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ رُؤْيَةِ الرَّسُولِ لَهَا إِعْلَامُهُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَيُعَامِلُهُمْ بِمُقْتَضَاهَا فِي الدُّنْيَا، دُونَ أَقْوَالِهِمْ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ تَخَلُّفِهِمْ وَغَيْرِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ. وَأَمَّا رُؤْيَةُ اللهِ تَعَالَى لَهَا فَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ (بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ) وَفِي مَعْنَاهَا قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (9: 105) هَذِهِ الْآيَةُ حَثٌّ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْمُؤْمِنُونَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ لِتَذْكِيرِ الْعَامِلِينَ بِأَنَّ اللهَ يَرَى أَعْمَالَهُمْ وَهُوَ الَّذِي يُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِحْسَانُ وَالْإِخْلَاصُ لَهُ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِ شَرْعِهِ فِيهَا. وَبِأَنَّ رَسُولَهُ يَرَاهَا وَيُعَامِلُهُمْ بِمُقْتَضَاهَا.
وَهَذَا خَاصٌّ بِحَالِ حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الشَّهِيدُ عَلَيْهِمْ فِيهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لِيَتَحَرَّوْا أَنْ يَشْهَدَ لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ- ثُمَّ لِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهَا فَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا فِيهَا سَبِيلَهُمْ وَيَتَحَرَّوْا فِيهَا مَا يُوَافِقُ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ الَّتِي يَشْتَرِكُونَ فِيهَا، وَجَمَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فِي مَوْضِعِهَا بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ).
(14) قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} (9: 99) فَهَذَا ضَرْبٌ مِنِ اقْتِرَانِ اسْمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِاسْمِ اللهِ تَعَالَى فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ مَعَ الْفَصْلِ فِيهِ بَيْنَ مَا لَهُ تَعَالَى وَمَا لِرَسُولِهِ. فَالَّذِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ هُوَ قَصْدُ الْقُرْبَةِ وَابْتِغَاءُ الْمَرْضَاةِ وَالْمَثُوبَةِ، وَالَّذِي لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم هُوَ طَلَبُ صَلَوَاتِهِ أَيْ أَدْعِيَةٍ إِذْ كَانَ يَدْعُو لِلْمُتَصَدِّقِينَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ).
وَكُلُّ هَذِهِ الْآيَاتِ مِمَّا يُفَنِّدُ دَعْوَى بَعْضِ الْمَلَاحِدَةِ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْقُرْآنُ وَحْدَهُ دُونَ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ مَا تَرَى فِي الْفَصْلَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ.